بالوقوف على عنوان المؤتمر هذا العام "الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع"، ندع القاريء الكريم إلى قراءة منصفة لما قد نسميه "ختامه مِسك"، وهي كلمة فضيلة الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي الجمهورية، الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم؛ وهو دينامو هذه الفعالية بامتياز، فهو عالِم من طراز فريد بشهادة الجميع، ومن المهم أن نبرز كلمته في ختام حدث دولي كبير يجمع العلماء والمتخصصين في شتى العلوم الدينية والاجتماعية من أجل الاتفاق على منهجية رصينة للتواصل مع الآخر في عالم تتغير أحداثه كل دقيقة، مما يدعونا إلى تأمل خطواتنا في الحياة سواء على المستوى الشخصي أو العلمي والعملي كذلك.
انطلق د. نجم في كلمته من ثلاث قصص ملهمة، كلهن اعتمدن على طرح فكرة التطور والتغيير وفتح آفاق رحبة للتطلع والتعلم وتحقيق الأهداف طالما أن هناك "حلم كبير"؛ فكل خطوة على طريق العلم والعمل الصحيح هي الأمل الفسيح مع وجود يقين أن التغير هو سنة الله في كونه، وأن الإنسان الذي كرمه رب العالمين بأن جعله "خليفة له في الأرض"، لا يسعه إلا أن يسعى متوكلا على خالقه، مع العلم بأن التغير وإن كان كلمة سهلة في ظاهرها إلا أنها تحتاج الوقوف على مجموعة من العناصر، قد أجملها د. نجم في الآتي:
تغيير العقليات: دور التحول الجذري في حياة الفرد
يُعد تغيير العقليات وتحول الأفكار من الموضوعات الحيوية التي يجب التوقف عندها والتأمل فيها، وفي هذا السياق، يتحدث الدكتور "نجم" عن مفهوم "التحول النموذجي" (Paradigm shift) الذي طرحه العالم في تاريخ العلوم، توماس كوهن، هذا المفهوم يشير إلى التحول الجذري في العقلية والمواقف التي تؤدي إلى تفكير مختلف وإنتاج أفكار جديدة.
مفهوم التحول النموذجي
يشرح كوهن أن التحول النموذجي هو عملية تتضمن تغييرًا كاملاً في الطريقة التي نفهم بها العالم من حولنا، على سبيل المثال، كان الناس في العصور القديمة يعتقدون أن الأرض هي مركز الكون، وهذا الاعتقاد أثر على الكثير من النظريات العلمية والفكرية في ذلك الوقت، ولكن عندما تغير هذا المفهوم وأصبح الاعتقاد السائد أن الشمس هي مركز النظام الشمسي، تغيرت النتائج وتوسعت الأفق المعرفية بشكل كبير.
القرآن الكريم والتحول النموذجي
إن هذا التحول في الفهم ليس محصورًا على العلوم فقط، بل يمكن تطبيقه على مختلف جوانب الحياة، والقرآن الكريم يؤكد على هذا المفهوم في قصة سحرة فرعون الذين تغيرت قناعاتهم بشكل جذري بعد مواجهة الحقائق، عندما رأى السحرة آيات موسى عليه السلام، تحول إدراكهم ومعرفتهم بشكل جذري، مما أدى إلى تغيير مواقفهم وأفعالهم.
التحولات في الحياة اليومية
التحول في الفهم والمواقف يمكن أن يحدث نتيجة أحداث حياتية مختلفة، على سبيل المثال، فقدان صديق أو والد يمكن أن يكون له تأثير عميق على طريقة التفكير والفهم، فكرة الفقد لأي عزيز عامة تحدث تغيرا كبيرا، هذا التغيير قد يقود إلى إعادة تقييم الأمور والنظر إليها من زاوية جديدة، حتى قراءة كتاب قد تؤدي إلى تحول في الفكر إذا كانت الكلمات تؤثر بشكل عميق على الشخص.
التحول في الذهن والعمل
عندما يتحول المعنى في الذهن، يقود ذلك إلى تغييرات في الأعمال والتفكير، وإذا تغيرت قناعات الشخص وتوجهاته، فإن ذلك سينعكس بالتأكيد على أفعاله، وهذا التحول يمكن أن يكون له تأثير فارق وعميق في حياة الفرد، حيث يقود إلى تحقيق أهداف جديدة وتبني مواقف أكثر إيجابية وبناءة.
أهمية التحول النموذجي
إن فهم التحول النموذجي وأهميته يعزز القدرة على التكيف مع التغيرات والمستجدات في الحياة، ربما تكون هي تلك المنهجية التي تعين على التعامل مع معطيات هذا العالم المتسارع الذي نعيشه، التحول في العقليات يمكن أن يساعد في تجاوز التحديات وتبني رؤى جديدة تساهم في التطور الشخصي والمجتمعي، إنه ليس مجرد تغيير في الأفكار، بل هو تحول كامل يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة ويؤدي إلى إنجازات غير متوقعة، مما يساهم في بناء مستقبل أكثر إشراقًا واستقرارًا.
فإن كان التغير هو سنة الله في خلقه، فلماذا لا نجعله دائما تغيرا للأفضل، حتى مع وجود الفقد أو التحديات التي لا يخلو منها أي مجتمع؛ فالحياة لا تسير على وتيرة واحدة، وإلا أصبحنا كالماء الراكد، والحركة هي سر الحياة، كما جاء في قول الله تعالى: "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (سورة الملك: الآية 15).
هنا تجد الإشارة بأن التغير لابد أن يصاحبه أخلاق، وهذا ما طرحة د. نجم في سؤال اختتم به كلمته: ماذا بعد؟ لتكون الإجابة مقررة لما تركزت عليه أهداف المؤتمر، وبما أننا في عالم رُفعت فيه الحدود والحواجز ولا يمكن لأي مجتمع أو دولة أن تنعزل عن العالم، حتى أصبح العالم كالسوق المفتوح، فليس المطلوب منا أن نمتثل لحالة الإنكار ولكن دورنا أن نحسن عرض بضاعتنا إذا كان الآخرون يتكلمون في أمر مستهجن لدينا، فواجبنا ليس الإنكار ولكن أن نعرض بضاعتنا ونفتح الأفق لتغير يرعى ما نصت عليه تعاليم الدين والشرع الحنيف وهي مسؤولية العلماء وقادة الرأي بالحكمة والموعظة الحسنة وهى الآية التي افتتح بها المؤتمر: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (سورة النحل: الآية 125).
وختامًا، فإننا نتطلع إلى فترة جديدة من العمل الدؤوب المتميز للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم وأن يكون كل إنتاجها الفكري والعلمي علامة فارقة في تاريخ المؤسسة الإفتائية في العالم، وأن يكون التغيير دائما نحو آفاق رحبة من التواصل والفهم والتفاهم ومد جسور العلوم.