د إبراهيم نجم
الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم
يتسم الفقه الإسلامي بالمرونة وصلاحيته لكل زمان ومكان وأحوال وأشخاص، فالفقه الإسلامي به من المرونة والسلاسة ما يجعله متواكبا مع كافة الظروف والمتغيرات مهما كانت صعبة وعسيرة، وهناك فقه يسمى فقه النوزال وفتاوى تسمى فتاوى النوازل، وهو فقه الضرورة والحوادث الصعبة التي تمر على الناس وتحتاج إلى فتاوى وأحكام استثنائية تناسب طبيعة الظرف الحرج الذي هم فيه، وهذا ينطبق تمام الانطباق على حالة اجتياح فيروس كورنا إلى عدد من بلدان العالم، والمسلمون جزء من هذا العالم ، فيحتاجون من أهل الإفتاء والفقه أن يسدوا حاجة وقتهم بما يصلح من فتاوى تيسر عليهم حالة العسر ولا تخرجهم عن حد الشريعة الإسلامية.
ومن العبارات الذهبية الواردة عن الإمام الشافعي قوله : (إن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق)، ولقد أصل علماء الفقه والأصول لعدد من القواعد المستنطبة من أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصرفاته في النوازل والحوادث الطارئة، من أهم هذه القواعد التي بني عليها الفقه الإسلامية قاعد (الضرورات تبيح المحظورات) بشرط عدم نقصانها عنها كما نص الإمام ابن السبكي والسيوطي في قواعدهما، ومن ثم فقد أبيحت الميتة للمضطر وأبيح لمن غص بطعام حتى أشرف على الموت أن يسيغ ذلك بالخمر إذا لم يجد غيره، ولأن صناعة الفقه صناعة موازنات وترجيحات دقيقة بين المصالح والمفاسد، نص الفقهاء على ضرورة الموازنة بين الضرورة وبين المحظور، فلابد أن يكون الداعي إلى ارتكاب المحظور الشرعي أمرا يترتب عليه هلاك نفس أو مال أو دين أو نسل أو عرض أو يعرض الإنسان إلى حرج وضيق بالغ تستحيل معه الحياة، وهذه الأخيرة تسمى في عرف الفقهاء بالحاجيات وهي تعامل معاملة الضروريات الخمس، ومن ثم قالوا إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، هذا فيما يتعلق بالضرورة وأحكامها.
هناك قاعدة أخرى مهمة جدا في شأن فتاوى النوزال نص عليها الفقهاء وهي أن (المشقة تجلب التيسير) والعمل بهذه القواعد أو بمعنى أدق إعمال هذه القواعد وتفعيلها في الفتاوى والأحكام الشرعية خاصة في وقت النوزال والشدائد الآن يرفع الحرج عن المكلفين ويشعرهم بعظمة الفقه ومرونة الشريعة الإسلامية، ولابد لكل العاملين في مجال الفقه والدعوة إلى الله تعالى أن يعلموا أن إعمال هذه القواعد خاصة في أوقات الضرورة محقق لمقاصد الشريعة، فما أفتت به دار الإفتاء المصرية وهيئة كبار العلماء بعدم وجوب إتيان المساجد في الجمع والجماعات فهذا لا شك محقق لمقاصد الشرع الشريف من حفظ النفوس وسلامتهاـ بل قد يتطور الأمر وتتوجه الفتوى إلى منعها تماما إذا دعت الظروف إلى ذلك شأنها شأن بقية التجمعات فالمرض لن يفرق بين تجمع ديني أو تجمع غير ديني خاصة مع وجود إصابات في دول أخرى إسلامية بسبب تجمعات دينية وواجب أهل العلم ووظيفتهم في هذا التوقيت أن يحذروا الناس أشد التحذير من كافة أوجه الأنشطة الدينية الجماعية ولنكتفي بالأنشطة الفردية أو الأنشطة التي يمكن ممارستها جماعيا عبر وسائل البث الحديثة لأن حفظ النفوس والأرواح مقدم على ممارسة أية شعيرة دينية حتى لو كانت الحج أو العمرة أو صلاة الجمعة والجماعة فضلا عن الدروس والحضرات وزيارة أولياء الله الصالحين فهي لاشك ليست في درجة الحج والعمرة وصلاة الجمعة.
إن تحقيق مقاصد الشريعة بحفظ النفوس بل وتقديم حفظ النفوس على غيرها من المقاصد حتى حفظ الدين أمر قال به عدد من العلماء يقول الرازي في المحصول (5/ 220): «أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل».وقال الزركشي في البحر المحيط (7/ 266): « الضروري: وهو المتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلف فيها الشرائع، بل هي مطبقة على حفظها، وهي خمسة:أحدها - حفظ النفس: بشرعية القصاص، فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق واختل نظام المصالح....... رابعها: حفظ الدين.... لأجل مصلحة الدين، والقتال في جهاد أهل الحرب.. ويقول الأسنوي في نهاية السول (1/ 256): «الكليات الخمس أي: حفظ النفوس، والعقول, والأموال، والأنساب، والأعراض». وينقل الأسنوي عن ابن الحاجب في نهاية السول (1/ 391) فيقول: «وحكى ابن الحاجب مذهبا: أن مصلحة الدين مؤخرة على الكل؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة».
ولا شك أن المقصود بالتعارض بين حفظ النفس والدين هو التعارض بين حفظ النفس والشعائر الظاهرة ، لأنه لا يتصور تعارض بين حفظ النفس والتمسك بالعقيدة التوحيدية الباطنة فهي أمر قلبي اعتقادي لا يكلف الإنسان شيئا إلا جزم القلب، وهذا الجزم لا يوجد تعارض بينه وبين حفظ النفس لذلك أباح الله تعالى فقط لمن أكره على الكفر أن يكون ذلك نطقا باللسان، قال تعالى : (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبُهُ مُطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكُفر صدرًا فعليهم غضبٌ من الله ولهُم عذابٌ عظيمٌ) نزلت في عمار بن ياسر ولقد أخذه المُشركُون فلم يترُكُوهُ حتى سب النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وذكر آلهتهُم بخيرٍ ثُم تركُوهُ، فلما أتى رسُول الله صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شر يا رسُول الله، ما تُركتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهُم بخيرٍ قال: «كيف تجدُ قلبك؟» قال: مُطمئن بالإيمان قال: «إن عادُوا فعُد».