لم يكن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مدارس فقهية بشكلها المتطور المعهود، وكانت اجتهادات الصحابة الكرام محدودة لاعتبار وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن فقههم كان منضبطًا بالضبط النبوي فقد تلقوا فقههم عن النبي، وتتبعوا ما جاء عنه من أقواله وأفعاله وتقريراته، بل ويوضح لهم ما يمكن أن يستعينوا به في اجتهادهم، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يكن دورهم مقتصرًا على نقل ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط والأخذ بظاهر النصوص، بل كان لهم اجتهادات وفق ما فهموه من سنة النبي وتفسيرات القرآن الكريم ومعايشتهم لأسباب نزول الآيات.
وقد برز بين الصحابة فقهاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم، منهم ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، ولم يكن ذلك مقتصرًا على الصحابة من الرجال فحسب، بل الصحابيات كذلك كان منهن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها التي لها استدراكات على بعض فتاوى الصحابة، وكذلك أم سلمة وزينب وميمونة رضوان الله عنهن، والسيدة صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبى طلحة، وأسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما، والحولاء بنت قويت، وأم الدرداء التي روت علماً جمّاً عن زوجها أبى الدرداء، حتى أن عدد الصحابيات اللائي قمن بالفتية بلغ «ثلاثين» صحابية.
ويمكن القول إن مدارس التفكير الفقهي لم تكن وليدة المصادفة، أو إنها ظهرت قبل ظهور المذاهب الفقهية، فهي بدأت معالمها في الظهور منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقر منهجها، وهما مدرستان: الاولى حينما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضى رسول الله، فأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا إعمال النص والاجتهاد فيه، والاجتهاد كذلك بالقياس إذا لم يوجد نص صريح في مسألة محددة واعتماد مقاصد الشريعة الكبرى والقرائن المصاحبة للنص المحدد للمسألة حتى لو كان المقصود من هذا النص بعيدًا عن ظاهر لفظه، ثم يأتي حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذى قال فيه «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة»، ليقر قاعدة ومدرسة ثانية وهى تطبيق النص مع التمسك بظاهره ما دام ذلك ممكنًا، وأيضًا عدم الأخذ بظاهر النص والاستنباط وفقًا لأدوات محددة والبحث فيما وراء اللفظ، وتجلى ذلك في تعامل الصحابة الكرام مع هذا النص على مدرستين الأول تمسك بظاهره فلم يصلوا العصر إلا عندما وصلوا إلى ديار بنى قريظة، والمدرسة الثانية اجتهدت فيه حتى وصلت إلى أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حثهم للوصول إلى بنى قريظة بأسرع وقت ممكن فتوقفوا لصلاة العصر في وقتها حتى لا تفوتهم، وعندما عادوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر الاثنين.